التطرف المسيحي الارتري: المصدر والمصير الكاتب السياسي أ. فتحي عثمان

التطرف المسيحي الارتري: المصدر والمصير

فتحي عثمان

بإمكان المرء وبكل سهولة الاستناد على التاريخ القريب والبعيد لارتريا لمعرفة أن البلاد لم تشهد مذابحا وفظائعا ارتكبها المسلمون ضد إخوانهم المسيحيين أو العكس – وهذا لا ينفي حدوث ظلم راح ضحيته الأفراد هنا وهناك خاصة في فترة إثارة النعرات الطائفية أيام الإدارة البريطانية وبشكل أكثر خصوصا في فترة “الإرهاب” الاثيوبي التي تصدرها شباب حزب الاندنت. ولم يسجل هذا التاريخ حدوث مجزرة مشابهة لمجزرة القديس بارتوليوميو في باريس في سنة 1572. ففي صبيحة 24 أغسطس أعلنت أجراس الكنيسة بدأ المجزرة التي ارتكبها الكاثوليك الرومان ضد مواطنيهم البروتستانت “الأوغنوت” بإيعاز من والدة من ملك فرنسا شارل كاثرين ميديشي. استمرت المجزرة حتى اليوم الثاني ثم انتقلت إلى مدن روان، وليون وأورليون وبوردو. حسب المصادر الكاثوليكية الجانية فإن عدد القتلى وصل في باريس إلى 2000 ضحية؛ أما المصادر البروتستانتية فتسجل حوالي سبعين الفا، أما المصادر التاريخية الحديثة فتقول أن ثلاثة الآف ضحية فقدوا ارواحهم في باريس فقط. ولاقت هذه المجزرة ترحيبا كبيرا من بابا الفاتيكان حينها غريغوري الثالث عشر وملك اسبانيا. وكانت هذه المجزرة ضمن حرب أهلية طاحنة عمت أجزاء من أوروبا أيضا.
فإذا كان التاريخ الارتري لا يسجل مثل هذه الفظائع فما هو مصدر التعصب المسيحي الحالي ضد المسلمين في ارتريا وإلى أين يسير؟
يعود هذا التطرف والكراهية إلى مصدرين: الأول هو الخلط الأعمى بين التاريخ الاثيوبي والتاريخ الارتري، والمعاناة التي مر بها المهاجرون من الشباب الارتري في “ممر العذاب” وهو طريق الهجرة المار بالسودان ومصر وليبيا وصولا إلى أوروبا.
في كتاب ارتريا والشرعية السياسية التطور والتاريخ بينت أن شرعية المزاعم الاثيوبية قامت على ثلاثة اركان هي: التوحيد القسري للجغرافية والتاريخ وتوحيد الكنيسة الارثوذكسية ورعاياها. فمن الناحية الجغرافية زعمت اثيوبيا بأن ارتريا تشكل المحافظة الرابعة عشر من محافظات الإمبراطورية، ومن الناحية التاريخية فالبلاد ومواطنيها- حسب هذا الزعم- يدخلون تحت الأسطورة السياسية لحكام الحبشة القائمة على كتاب الملوك “كبرا نقست” والذي حدد اثيوبيا بأنها امبراطورية مسيحية خالصة. أم المراسيم الكنسية الصادرة في 1872 فلقد وضعت المسلمين في الحبشة بين خياري التنصر أو الموت. وبذلك تحول المسلمون إلى مواطنين من الدرجة الثانية؛ وهذا ما أخاف مسلمي ارتريا بالتحديد في فترة الاتحاد الفيدرالي وما بعدها، اما الجزء المتعلق بتوحيد الكنيسة الأرثوذكسية ورعاياها في البلدين فتشهد به الممارسات الإرهابية للقس الارتري ديمطروس وتاريخه المشين.
وتاريخ اثيوبيا تاريخ دام بشكل مريع. فالملك يوهنس الرابع والذي قضى على يد جيوش المهدي سام المسلمين في اثيوبيا وأجزاء من ارتريا الوان العذاب، وكذلك فعل تيدروس، وبالمقابل فإن حملة الإمام أحمد جران “الأعسر” تركت ندوبا غائرة في الوجدان المسيحي الاثيوبي. وضعت الثورة الارترية حدا للمزاعم الاثيوبية بشقيها التاريخي والسياسي وأسهمت في رص البنيان الوطني ضد الاستعمار (مع بعض الاستثناءات التي تعرض فيها بعض المقاتلين المسيحيين للاضطهاد والقتل)، ولم يشهد التاريخ الارتري، ورغم مظالم السلطة الحالية ضد المسلمين في البلاد حربا أهلية طائفية.
من الطبيعي أن يشعر مسيحيي ارتريا بالتعاطف مع إخوانهم في العقيدة في اثيوبيا ومصر واليونان وروسيا، تماما كما يتعاطف مسلمو نيجيريا مع مسلمي الروهينغا في ميانمار أو مسلمو اندونيسيا مع مسلمي جمهورية افريقيا الوسطي. فكل العقائد دون استثناء تدعو إلى التآخي بين المؤمنين والتعاضد والتآزر، ولكن المتطرفون من المسيحين الارتريين يخلطون بين مشاعرهم الدينية وواجباتهم القومية. فالتعاطف مع المسيحي الاثيوبي لا يعني اكتساب جنسيته، تماما مثلما يتعاطف المسلم في النيجر مع مسلمي كوسوفو دون ادعاء الأوروبية أو التخلي عن جنسيته.
فالمواطنة في الدولة العلمانية تقدم التضامن بين المواطنين على التعاطف بين المؤمنين، ولا تقوم الدول والمواطنة فيها على كسر الحدود والذهاب بالكلية للصلاة في كنائس الآخرين؛ بل ومعاداة الأخوة من المواطنين من أصحاب العقائد الأخرى؛ وهذا بالضبط ما يفعله المتطرفون المسيحيون الارتريون اليوم في دول المهجر. أنهم يقدمون مشاعرهم الدينية على واجباتهم الوطنية.
المصدر الثاني لهذه الكراهية هو المعاناة والعذاب بكل الألوان الذي تعرض له الشابات والشبان الارتريين وهو يحاولون الوصول إلى احلامهم في الدول الأوروبية وغيرها. هنا لا يمكن نكران أن هؤلاء تعرضوا للاغتصاب، والتعذيب الجسدي والمعنوي والبيع في أسواق النخاسة وصولا إلى القتل على أيد مواطنين لدول تدين اغلبها بالإسلام، خاصة في ليبيا، هذا ترك آثارا غائرة لا يمكن محوها بسهولة: ولكن كل هذا لا يبرر الدعوة إلى إبادة المسلمين في ارتريا ورميهم في البحر، وهذا خلط اعتسافي آخر يوسع الخرق على الراتق.
ودعوات الإبادة ورمي المسلمين في البحر بدأها عراب الكراهية في وسائل التواصل الاجتماعي (تسفاظيون) ويبشر بها الآن بعض المتطرفين من أعضاء برقيد نحمدو كذلك، وهي تثير الكراهية المضادة والمخاوف.
أن خلط التاريخ الحبشي بتاريخ ارتريا وتأويل المعاناة العميقة وأسبابها هما السببان اللذان يدفعان إلى هذه الكراهية فيما نحسب.
هذا الوضع يثقل كاهل المثقف الارتري المسيحي المعتدل، فهو في حال تبني خيار الأساس العلماني لدولة المواطنة فإنه معني أكثر من غيره بتقديم مشاعر التضامن الوطني على مشاعر التدين العابر للحدود، ليس ذلك فحسب بل عليه بيان وتوضيح الأضرار الناتجة عنه في بناء الوطن والأمة. وهناك مساحة شاسعة بين التاريخ الدامي لإثيوبيا بكل جراحاته وماضي ارتريا القائم على التعايش، ولا يجب أن يكون الدين هو القنطرة الرابطة بينهما. أما المثقف المسلم فهو مطالب بعدم تبني خطاب كراهية مضاد ناسفا بذلك أسس التضامن الوطني، رغم ما يتعرض له المسلمون في البلاد اليوم. فدولة المواطنة والحقوق المتساوية وحكم القانون تشكل ضمانة كافية للتعايش.
والذي يطمئن القلب أن دعوات الكراهية والتعصب هذه لم تصل إلى البلاد، وهي تسرح وتمرح في المهجر لوجود مناخ الحرية المطلق والعبثي أيضا. يعرف الجميع أن الارتريين في الداخل يعيشون في تسامح (وليس للحكومة يد في ذلك) بل هو نتاج لإرث ثقافي تليد يتعكر فقط عندما يتدخل فيه الآخرون.
فالارتريون اليوم مطالبون- أكثر من أي وقت مضى- بأن لا يجمعوا على أنفسهم بطش الظالم وعقابيل التعصب.

ادم عبدالرحمن
ادم عبدالرحمن
المقالات: 101

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *