بقلم / د . فايد محمد سعيد
لم يعد الحديث عن التعايش مسالة تؤرق القادة والسياسيين والمفكرين والأدباء وأرباب الأعمال فحسب، بل باتت من قضايا العصر التي تشغل المجتمعات البشرية بأسرها بمختلف فئاتها وانتماءاتها الدينية والمذهبية والفكرية. إن التطور الكبير الذي يشهده عالم تقنية الاتصالات و المعلومات وتقاطع المصالح وتبادل المنافع بين الناس الذي يزداد يوما بعد يوم في سرعة مذهلة أصبح الانكفاء والاشتغال بالشأن الداخلي لأي مجتمع أمرا مستحيلاً حتى بات من المسلمات أنه مطلوب من المفكرين والتربويين وأولياء الأمور ليس فقط معالجة المشاكل التي تحدث في بيئتهم بل محاولة البحث وإيجاد الحلول لكل الهموم التي تشغل المجتمع الإنساني، فما من قضية تطرأ تمس جانبا من جوانب الحياة المختلفة إلا وتداعياتها وتأثيراتها تصل الآفاق ويتفاعل معها الجميع عبر شبكات التواصل الاجتماعي المختلفة. وهذا عبء كبير وأمانة ثقيلة على كل من يقوم بمهمة التربية سواء كانوا أولياء الأمور أو القائمين على هذا القطاع الحيوي والمهم الذي يشغل حيزا كبيرا من حياة الأفراد والمجتمعات والشعوب. إننا نعيش في عالم مترامي الأطراف ولكن المسافات تقاربت بل تداخلت فالواحد يصبح في بلد ويمسي في بلد آخر بل في قارة أخرى في كثير من الأحيان وتتشابك الهموم والمصالح والمشاكل حتى أصبح ما يحدث في بلد معين تتأثر به بلدان ومجتمعات وشعوب أخرى محيطة بالبلد المعين أو بعيدة عنه. إن العالم اليوم يتحدث عن قيم وسياسة عالمية وسلوك واقتصاد عالمي وثقافة مشتركة مما يجعلنا أمام تحد كبير لنتأقلم مع هذا الوضع بعرض سماحة الإسلام وقيمه النبيلة وغاياته وأهدافه العظيمة التي لا تخص مجتمعا ولا ثقافة ولا فئة معينه بل هو للناس الكافة مما يجعل مسألة العولمة لنا نحن معاشر المنتمين لهذا الدين مساحة دعوية مهمة لا عنصر تهديد، و عنصر بناء لا عامل هدم والمتطلع إلى ما أنجزه من هاجر من المسلمين إلى بلاد الغرب من تفوق علمي وعمل دعوي وإسهام ثقافي خير دليل على ذلك. والخوف من مسألة العولمة والتحذير من تداعياتها أصبحت لا تجدي شيئا بعد أن باتت هذه المسألة حقيقة واقعة نشاهدها. فالمطلوب هو الاستفادة منها وتجنب التداعيات السيئة التي تؤثر سلبا على مجتمعاتنا بنشر قيمنا وتاريخنا والإتاحة للآخرين بالإطلاع عليها وفتح أبواب التفاعل المعرفي بالحوار البناء القائم على الاحترام المتبادل ومواجهة الحجة بالحجة دون إكراه و إزدراء.
لقد بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مجتمعا عظيما أرسى فيه مبادئ العدالة والحرية وبسط فيه قيم السماحة والتعاون وأعلى فيه من شأن الأخلاق الحسنة حتى قال صلى الله عليه وسلم:” إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا ، وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون . قالوا : يا رسول الله قد علمنا الثرثارين والمتشدقين فما المتفيهقون ؟ قال : المتكبرون”[1]. إن التطرق إلى قضية التعايش يجب أن لا يسطح ويخضع للتجارب الشخصية والأخطاء التاريخية التي تقع من طرف دون آخر بل يجب أن ينظر فيها إلى المبادىء الأساسية التي قام عليها الدين الإسلامي ثم بعد ذلك ينظر إلى أمثلة واقعية تجسد تلك المبادىء فقد تكون النصوص جميلة والدساتير
رائعة ولكن ما لم يتنزل بها إلى واقع الممارسة تظل تجربة ناقصة ونوايا حسنة لم تفعل ومحاولات لم تكلل بالنجاح. والجانب العملي كان واقعاً مشاهدا حيث أعلى قيمه النبي صلى الله عليه وسلم من خلال تطبيقه للمبادىء التي دعا إليها حتى قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عندما سألت عن أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كان خلقه القرآن”[2] وذم الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم الأمم السابقة التي كانت تدعوا إلى ما لا تطبقه في الواقع العملي فقال عز من قائل: “( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)”[3]
فما هي المبادئ العامة والمهمة التي تحكم قضية التعايش في الدين الإسلامي؟ سؤال مهم يجب أن يتبادر إلى أذهاننا.
المبدأ الأول هو مبدأ حرية الناس في معتقداتهم وهذا المبدأ أكد عليه القرآن الكريم غير مرة لأهميته كمنطلق للتعايش بين الناس على ظهر هذه البسيطة وعلى سبيل المثال لا الحصر ننظر إلى توجيهات المولى سبحانه وتعالى في كتابه العزيز حيث ينهى عن الإكراه في الدين فيقول: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ…)[4] والمولى القادر على كل شيئ ومن أمره بين الكاف والنون يعطي للناس حرية الاختيار فيقول: (…فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)[5] ويؤكد على أنه من مقتضيات السنن الكونية أن لا يكون الناس أمة واحدة فيقول سبحانه: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)[6]
المبدأ الثاني هو مبدأ الاعتراف بالآخر بالرغم من إيماننا ببطلان اعتقاده فقال تعالى: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)[7] وهذه السورة في القرآن تسمى سورة الكافرون وابتدأها المولى سبحانه بقوله: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)[8] ومع هذا اقر لهم بأن لهم دينهم.
المبدأ الثالث هو مبدأ التحاور بأرقى صوره وأفضل نماذجه حيث يدعو القرآن إلى الإحسان في الحوار وإن أساء الآخر فيقول جل شأنه: (وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[9] والآية ليست دعوة للحوار البناء فحسب بل يفهم منها دعوة من لا يحسن لحوار ولا يجد في نفسه الكفاءة العلمية والصبر على عدم خوض غمار التحاور. والمنصف يجد في هذا التوجيه القرآني إحسانا عظيما إلى المخالف لا يوجد له مثيل. فالمولى سبحانه يأمر باتباع أفضل السبل وأجمل الحديث وأتم الأخلاق في الحوار حيث جاءت الدعوة إلى الحوار بصيغة أفعل تفضيل (أحسن) وهي المبالغة في الحسن وبذل الجهد في إيصال المعلومة وتقريبها للمُحاوَرِ بحيث لا يملك من جمال اسلوبك إلا الإستمتاع بحديثك سمعاًَ وبصرً حتى تدخل من هذا الباب إلى قلبه فتنتج المحبة.
المبدأ الرابع: الإحسان إلى المخالف ما لم يقاتل ويعلن الحرب حيث قال سبحانه: (لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ)[10]
المبدأ الخامس: علو قدر الجنس البشري عند الله مهما كان انتماءه أو لونه أو عرقه أو جنسه فهو مكر من عند الله: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)[11] ومن كرمه الله تعالى من ذا الذي يجرأ على امتهانه.
المبدأ السادس: العدالة في التعامل مع الناس وإن اختلفوا معنا في المعتقد بل وإن اختصموا مع من يدينون بديننا حيث قال المولى جلت قدرته: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)[12]
المبدأ السابع: الدعوة إلى بحث المبادئ والقيم المشتركة وتعزيزها والإعلاء من شأنها قال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ)[13]
أما الجانب العملي للتعايش في تاريخ المسلمين فالمعول في ذلك هو النظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لأن الله سبحانه وجه المسلمين باتباع هديه وطاعة أوامره فقال عز من قائل: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)[14] وإذا كان الأمر كذالك فلننظر إلى وقائع تاريخية مهمة تمس جانب التعايش ويمكن اتخاذها انموذجا ونبراساً تهتدي به البشرية. وإلى القارئ الكريم بعض هذه النماذج في التعامل مع المخالف:
أولاً: التعامل مع المنافقين: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعامل في مكة مع من لم يؤمن برسالته في مكة وأظهر له العداء وأذاقه وأصحابه صنوف العذاب من الإيذاء اللفظي والجسدي والحصار الإقتصادي والاجتماعي والتهجير القسري ولكن عندما جاء عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة على صاحبها افضل الصلاة وأتم التسليم كان في مواجهة أنواع ثلاثة من الأعداء تشابكت وتلاقت مصالحهم في كراهية النبي صلى الله عليه وسلم وهم الوثنيين واليهود والمنافقين. والمنافقين هم الذين أظهروا الإنتماء لهذا الدين الجديد الذي آمن به أغلب أهل المدينة فلم يجدوا بداً من مداراة أهلهم لخوفهم من الغلبة ولكن الإيمان لم يلامس بشاشة قلوبهم فظلوا في حيرة وتردد وخوف والقرآن تحدث عن الناحية النفسية لهذه الفئة من الناس وتأصل عدائهم لهذا الدين في آيات كثيرة ليس هذا مجالها ولكن ما يهمنا هو كيف تعامل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن الله سبحانه وتعالى قال في حقهم: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ)[15] وآيات القرآن تتحدث عن صفاتهم الذميمة وأخلاقهم السيئة وطباعهم التي انطوت على الباطل والسعي على نشره بين الناس. فكيف تعامل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخدم يقين ربه فيقتلهم أو يعاقبهم بل ظل يدعو إلى قيم الدين الحنيف ويحذر بشكل عام من صفات النفاق وحفظ لهم دمائهم وأموالهم وعاملهم في الظاهر بالإحسان حتى أنه لم يفضحهم بين أصحابه حتى لايتهور أحدهم فيتعرض لهم بالسوء ولم يخبر أسماءهم إلا حذيفة بن اليمان أمين سره عليه السلام. حتى بلغ من إحسانه عليه السلام أن ابن زعيم هذه الفئة وهو عبدالله بن أبي بن سلول حسن إسلامه وظل قريبا من رسول الله صلى عليه وسلم ولم يعامله المسلمون بجريرة والده. وهنا لا بد أن نقف وننظر إلى هذه الدولة الناشئة التي يتربص بها الأعداء وخطر وجود العدو الداخلي لا يخفى على أحد ومع هذا لا يتعرض لهم النبي عليه السلام ويترك أمرهم لله. إن القادر على التعايش مع العدو المحقق خطره والظاهر كرهه وفي حالة الحرب التي تهدد باستئصال شأفة المسلمين يمثل قمة عظمة ذلك الإنسان ورقي ذلك المجتمع.
ثانياً:التعامل مع اليهود: إن تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود يمثل قمة التسامح والإحسان وإنصاف المخالف. وهنا لا بد من سرد بعض النماذج الثابتة التي تعامل بها النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود:
عندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بلغه أن اليهود يصومون يوم العاشر من محرم شكراً لله على نصره لموسى فقال عليه السلام أنا أولى بموسى منهم وأمر أصحابه بصيام ذلك اليوم. ويستفاد من هذا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد بهذا الفعل أن يعلم الناس جميعا أن المسلمين أحق الناس بشكر الله على أن نصر موسى عليه السلام هو نصر لهم، إذ أن رسالة الأنبياء واحدة. وأبرز بهذا صلوات ربي وسلامه عليه قيمة مشتركة بين مكونات المجتمع.[16]
عندما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بأم المؤمنين صفية بنت حيي وكانت يهودية قبل إسلامها وعيرها بعض نسائه بيهوديتها قال لها صلى الله عليه وسلم:وإنك لابنة نبي وإن عمك لنبي وإنك لتحت نبي. وفي هذا دلالة على أن تعيير الناس بانتماءهم ليس من الدين في شيء إذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر زوجته بأن تباهي بأصلها وانتمائها.[17]
عندما مرت جنازة يهودي قام لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له في ذلك فقال عليه السلام: :” أليست نفساً [18]
افتقاده عليه السلام لغلام يهودي كان يخدمه، وعندما علم بمرضه زاره عليه السلام وتأثر من حضر عندما دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام وهو يفارق الحياة فنظر الشاب إلى أبيه فقال له والده: أطع أبا القاسم فنطق بالشهادتين. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن النبي لم يكن يسعى إلى تحقيق مكاسب فأي مكسب في عالم المادة في إسلام محتضر إلى الموت أقرب منه من الحياة والإشارة الثانية أن مخالفة الدين لم تمنع النبي عليه السلام من زيارة المريض والتواصل معه.[19]
مات عليه السلام ودرعه مرهونة عند يهودي. وهذا دليل آخر على التعامل الحضاري مع الناس والتعايش معهم وتبادل المنافع بين المجتمع من أهم مرتكزات التواصل والوحدة.[20]
المسلمون اليوم يعيشون في مجتمع كاد أن يؤسس قيما كونية تحتم عليهم التفاعل معها وفق القيم العظيمة التي جاء بهم ديننا الحنيف. إن التباكي على مافات والعجز لن يبني المجد المنشود، والإنكفاء والتقوقع لم يعد ممكناً فعليه لا بد من التفاعل مع الحاضر وصناعة الحاضر والمستقبل بالتعلم من الماضي والحفاظ على القيم بنشرها وبسطها بين الناس ولنكن كما قال عليه السلام في توجيهه لأمته: ” يسروا ولا تعسروا، بشروا ولا تنفروا “[21].
وكتبه/ فايد محمد سعيد
رئيس مؤسسة نيزر العلمية في بريطانيا
١. سنن الترمذي: 2018
٢. أخرجه أحمد في مسنده 24080
٣. سورة البقرة:44
٤. سورة البقرة:256
٥. سورة الكهف :29
٦. سورة المائدة:48
٧. سورة الكافرون:6
٨. سورة الكافرون:1
٩. سورة العنكبوت:46
١٠. سورة الممتحنة:8
١١. سورة الإسراء:70
١٢. سورة المائدة:8
١٣. سورة آل عمران:65
١٤. سورة الأحزاب:21
١٥. سورة النساء:165
١٦. أخرجه البخاري: 2004
١٧. أخرجه الترمذي: 3894
١٨. أخرجه البخاري: 1312
١٩. أخرجه البخاري: 1356
٢٠. أخرجه البخاري: 2916
٢١. أخرجه البخاري: 69