المهندس أ.محمود شامي
قصة قصيرة
( كيمو ) هو ذلك الشاب الذي يحسب نفسه مَحظوظٌ دومًا، حيث ترافقه دعوات أمه، فهو شابُ ثلاثيني قد نال حظًا من الوسامة، ذو وجهٍ خَمري، منصوب القامةِ رشيق العود، يتمتع بطولِ قامةٍ مع قوة بُنيان سواعده مفتولة نافرة العضلات وعريض المنكبين .
كيمو ملازم بالشرطة الوطنية، اشتهر بين أقرانه بالطموح والانضباط والفِطنة والذكاء، فقد كان ولازال حارسا شخصيا لمعالي الوزيرة، والتي تم تعيينها حديثًا لمنصب وزاري جديد بعدما شغلت لأربع سنوات خلت منصبًا وزاريا رفيعًا . معالي الوزيرة تتمتع بجمالٍ طاغيًا مهيبًا ومُلفتاً للغاية، فتملك وجهًا صبوحًا لا ينضب بريقه أبدًا، و جسدًا رشيقًا ناعمًا وحِسًا رقيقًا، فهى واقفة في نقطةِ الاكتمال والنضوج، كوديعة في بنك سويسري احتفظت بثباتها رغم مرور أعوام على وضعها هناك، كان العمل معها يعجبه فلقربها سحر خاص،، ورغم ذلك تتسم ب بالصرامة والحزم، وتكاد تكون رجلًا في ثوب امرأة، فهى لا ترحم ولا تعرف الشفقة، أي خطأ بسيط معها يُكلف صاحبه الكثير ،،، فلقد طردت الكثير وغيرت الكثيرين أيضا من مواقعهم، منهم سائقها الشخصي الأول والثاني، وحارس المنزل وآخرين، لذا كان السيد كيمو منتبهًا جدًا حتى لا يخسرها ويخسر معها بعض الامتيازات التي تُمنح لحارسها، من حيث الراتب الجديد وحوافز السفر وبدل التنقل، ويصل كل هذا الى أضعاف راتبه الأساسي، مع كل ذلك الحرص والانتباه الذي يُبديه، كان ينتظر يومه، ويعلم أن يومه آتٍ آتٍ، لأنه من المستحيل ان يكون الانسان يقظا لدرجة انه لا ينام لا يخطئ أو لا يسهو .. جاء يومه فعلًا، وتزامن مع مرض خاله الذي فقد الوعي يومها وأدخلوه العناية الفائقة، فكان يتوجب عليه الاتصال بها ليخبرها بظروفه، لكنه لم يفعل ذلك ..
فما كان من معاليها في مساء نفس اليوم أن استغنت عن خدماته، فعاد خائبًا إلى مقر عمله بخُطى متثاقلة، أصابته في ذلك اليوم حُمى شديدة وألم بالبطن اتضح أنه قُرحة المعدة،، كان تفكيره مُنصبا حينها على شيئين ، يفكر أولًا في مشروع بناء منزلًا لأمه، فلقد شيد أساساته واشترى مواد بنائه، لكن بقيت نصف تكلفة المشروع مُعلقة، و كان مُعوِلًا على إكمال الفترة الثانية لمعالي الوزيرة والتي بقيت منها ثلاثة سنوات، فيكمل هو تِباعًا مشروعه الصغير بكل راحة، لكن في لحظةٍ مريرة تلاشى ذلك ( الحلم الجميل )، والذي لم يكن حتمًا أخر أحلامه، قرر مواصلة حلمه وحلم عائلته بكل السبل المتاحة بعيدا عنها.
بعد أربعة أشهرٍ استدعاه رئيسه وأبلغه بأن الوزيرة طلبت إعادته إلى موقعه حارسا لها،، فكر كيمو أن يرفض العودة إليها، لكن هيهات إنه لا يستطيع، فلقد تربى في كلية البوليس على تنفيذ التوجيهات والأوامر التى توجه لهم ودون نقاش، إلا انه طلب من مسؤوله المُباشر الإلتماس وإعفائه من تلك المَهمة..
استغرب وتعجب المسؤول من كلام الملازم كيمو ، فقد كان في نظره أنه أول شخص في الوطن يرفض كعكة يسعى لتناولها الجميع ،،، فوبخه قائلًا ؛
إنه الحلم يا ملازم، ولا يرفض الحلم سوى مجنون ..
ثم أضاف :
إذن سنكلف الملازم ال …..
ولم يُكمل ثم صمت قليلًا ، كما صمت كيمو أيضًا.. ساد الهدوء لثوانٍ قليلة، استأنف الكابتن حديثه وبصوت عالٍ :
نفذ الأمر يا ملازم ..
فقام كيمو بتأدية التحية العسكرية وأجاب بصوت جهوري عالٍ ؛
تمام سيدي القائد ..
القائد :-
للخلف در
كيمو :-
تمام سيدي القائد، ودااااار للخلف
القائد. :-
إنصراف ….
لقد كان حارسها الشخصي البديل الذي خلف كيمو من مكونها الثقاقي، ومن نفس المدينة التي تنتمي إليها الوزيرة، ولم يكن هذا الأمر مرغوبًا، فلا يجب أن يعرف أحد وخصوصًا أهلها ومجتمعها الصغير الذي تمثله في الحكومة وقبلها في البرلمان أيضا شيئًا عن خصوصياتها، وكيمو تتوفر فيه كل الشروط المطلوبة، ويحفظ دوره جيدًا (لا أسمع لا أرى لا أتكلم)، يعرف كيف يُغمض عينيه عن أمورٍ كثيرة بعضها عادي، وبعضها فوق العادي وبعضها ممنوع ومحظور ..
كانت تختبر حراسها ومنهم كيمو، في البدايات أرسلت له أشخاصًا يسألونه عن الأماكن التي تسهر فيها ومع من؟
هل مع مسؤولين حكوميين أم مع رجال المال والأعمال ؟ أم مواطنين أم أجانب؟ لدرجة أن أحدهم سأله عما إذا كانت تحتسي مشروبات روحية، وآخر أخبره عن علاقتها بالوزير الفلاني المُقرب منها، وأن ذلك الوزير وإفراطها في الشرب والسهر كانا السبب في طلاقها من زوجها ، فقد كان كيمو يُجيد التمثيل على كل هؤلاء ويقول لهم أنه لا يعرف شيئا مما يقولون ..
عاد كيمو إلى موقعه القديم، وفتح باب سيارتها تويوتا هارتوب ، المصفحة سوداء اللون أحدث موديل، فصعدت ثم أغلق الباب بكل رفقٍ وهدوء ، جلس بجانب السائق كعادته، وصلوا إلى مقر الوزارة، فقفز سريعًا خارج السيارة ثم فتح لها الباب ونزلت، ترك كيمو هذه المرة مهمة إغلاق الباب للسائق، أحس بوجود شئ ما ، تعبٍ ما ينتظرهم في الوزارة ، خصوصًا المسؤول الأمني الجديد بمبني الوزارة ليس مسؤولًا بالمرة ، لا يعرف الجميع ومنهم كيمو كيف تصبر عليه الوزيرة، يبدو أنه شخص مدعوم ومفروض عليها أيضا من جهات عليا ،، المهم ذلك اليوم رافقها السيد كيمو حد الإلتصاق ، كان التعب على يسار الباب، وقف كيمو على يسارها وحال بينها وبينهم، أحاطها بذراعه، اختفت هي تمامًا بين ذراعه الأيمن وصدره، أسرع بها الخُطى، كانت تهرول وهي شبه معلقة ومستندة عليه تمامًا ، تخطو لا إراديًا ، لم يعبأ أحد الأشخاص المتجمهرين في بوابة الوزارة بتحذير كيمو، بل واقترب منها أكثر ،، دفعه كيمو بكتفه، أوصلها الى مكتبها في الدور الأول ، أغلق باب مكتبها من الخارح ، ثم نزل في الحال وطلب تفسيرًا من المسؤول الأمني الجديد، الذي أخبره بدوره بأن المتجمهرين هم أهلها وأحدهم شقيق والدها ولم يستطع بالذات منعه ، اتضح لكيمو أيضًا أن من دفعه بكتفه هو عم معاليها، لم يكن كيمو يعرف كل أعمامها، لكنها اخبرته عن ذلك في مساء يوم تالي لذلك اليوم، فلقد أخبرته أيضًا أنها اعتذرت لعمها نيابة عنه ، كانت الوزيرة لا تريد ذلك اليوم مقابلة عمها، والذي يعرض عليها العودة إلى طليقها في كل مناسبة يلتقي بها ومن جهةٍ أخرى المشروب الذي احتسته صباح ذلك اليوم كان سببًا مهما لتتحاشى مقابلة عمها ومن معه..
بعد أسبوعين من عودة كيمو واستئنافه العمل أخبرته الوزيرة أنه سيسافر معها، وقد كانت سادس سفرية له معها لفرنسا وفوق العشرين للخارج ، بدأت علاقتهما تتحسن بعد عودتهما من باريس ،، سألته بعد عودتهما عن مشروع منزله، فأخبرها أين وصل وماذا بقي منه، و وعدته بالمساعدة .. بعد أسبوع واحد من وعدها إياه وفي مكتبها منحته شيكًا بقيمة خمسة وعشرون ألف دولار ،
قالت له ؛
هل يكفي هذا المبلغ البسيط لإتمام مشروعك يا كيمو ،،
أضافت قائلة :
كنت سأمنحك أكثر ، لكن ..
صمتت قليلًا ومعه اتجهت إلى الثلاجة ، حاولت أن تتناول ذلك الشيئ ، فسبقها كيمو كعادته وفتح الثلاجة وأخرج تلك القارورة، وإناء يحوي حبات الثلج، وكأس فارغة ، وضع كمية من البرد في الكأس ، سكب فيه قليلًا من الشراب، فتناولت رشفة من الكأس، ثم عادت للحديث قائلة له :-
أنت تعرف جيدًا يا كيمو أن إلتزاماتي الخاصة كثيرة كنت سأمنحك أكثر و……
كانت بدورها تقترب من حارسها الشخصي أكثر وأكثر ، لم تعد عصبية منذ زيارتهما الأخيرة ، لم تعد ترتاد الأوكار والبيوت المشبوهة كعادتها ،، كانت في السابق تخرج من تلك الأماكن في حالة لا يعلم بها إلا كيمو ورب العباد ،، تخرج منها أحيانًا تشكو وتلعن وتبكي ، أحيانا تخرج وهي تغني وتضحك وبصوت عال وبلا توقف، مرات تقول لكيمو أنه هو السبب وتبكي بطريقة هيستيرية وتضربه عشوائيا وبكلتا يديها وأين ما أصابت، على صدره وكتفه وبطنه دون أن يعرف السبب ،، ودون أن تؤثر عليه ضرباتها ، مرات تقبله وتسبب له حرجًا ممزوجا بلذة حينها يلجأ هو الى لطمها لتعود لوعيها .
معالي الوزيرة في العقد الرابع، وحارسها في العقد الثالث ،وهى حاصلة على دكتوراه في الإدارة والتسيير البشري من أعرق وأشهر جامعة أمريكية، أما كيمو فقد حصل على معدل مقبول في الثانوية العامة والتحق بالشرطة الوطنية.
في النهاية طلبت منه أن لا يكون رسميًا معها ، أن لا يقول لها كلمة معاليكم ولا يفتح لها باب سيارتها سوى في الأوقات الرسمية ، وأن يقود سيارتها وتجلس بجواره في أوقات غير رسمية،
لقد تم استدعاءها من قبل مسؤول أول في الأمن القومي الوطني في الفترة الأخيرة مرتين ، في لقائهما الأول نبهها المسؤول بأن لا تندفع وراء عواطفها بطريقة مفضوحة مثلما فعلت وعدد لها ثلاثة أمسيات مختلفة وثلاثة مواقف غير لائقة ، أمرها بصيغة ديبلوماسية أن تكون مسؤولة ، يبقى كل شي في مكانه ، ليس هناك وقت رسمي وآخر غير رسمي لها، سوى بالأماكن المغلقة بإحكام ،، كما أنه أخبرها أن الحارس يجب أن يظل في مكانه ، والسائق في مكانه، والوزير في مكانه ، لكل منهم حدوده وفواصله ، في كل الأوقات والأمكنة ،، على الأقل يجب أن تظهر ذلك دومًا ،، والتزمت بتنفيذ ذلك الأمر حرفيًا.
في المرة الثانية والأخيرة وكانت قبل بضعة أشهر من نهاية مرحلتها الوزارية الثانية اتفق معها المسؤول الأول ب هات وخذ ، بمعنى أن مهامها كوزير انتهت، وعليها الانسحاب بهدوء، أخبرها أن الكبير يشيد بها وبأدائها وتسييرها في الحكومة في السنوات الثمان التي خدمت فيها وطنها وأمتها ، العمارتين والقصر الكبير وعقارين آخرين، وارصدتها في بنوك وطنية وأخرى في الخارج كلها ملك خالص لها ، الوطن والأمة لازالا بحاجتها لذا ستعين كمستشار إداري في الرئاسة وهو منصب فخري شرفي ، ومعه سيمنحها الكبير باسم الوطن والأمة أعلى وسام دولة.
ترك الكراسي أمر صعب للغاية ، لكن التعليمات الفوقية لا يمكن مواجهتها، ويقبلون به غصبا عنهم ، الابتسامات التي تعلو محياهم أثناء تسليم المهام لوزراء جدد ما هو سوى ابتسامات صفراء تخفي وراءها الكثير من الخيبات والصدمات والأوجاع ،، أما هى فلقد سرها الخبر وفرحت به ، لأن ذلك سيحررها من بعض القيود ، ربما ستعيش حياتها كيفما تشاء.
كان سبب استغنائها عن خدمات كيمو وطردها له ذات يوم ، احساس منها بوقوع شئ خطأ في حياتها، ، تسلل مشاعر غريبة الى دواخلها، لشعورها بغزو خطير وانقلاب طرأ على حياتها، حاولت ابعاد ذلك الشعور بإبعاده هو ، حتى لا تقع بحب شخص أصغر منها، شخص ليس من مستواها الاجتماعي ، خالج أيضا ذلك الشعور الشاذ والغريب حارسها ،، فلقد أصيب ذات يومٍ ب الحمى وقرحة المعدة بسبب تعلقه الكبير بها وعدم تقبله مفارقتها، حاول بدوره دفع هذا الشعور الغريب عندما طلب من مسؤوله المباشر اعفاءه من العودة اليها ذات يوم ، لم يستطع اقناع رئيسه في اللاعودة اليها، ولم يستطع اقناع نفسه .. نجح شعورهما الذي لم يكن كافيا ليرتبطا، وضعها الإجتماعي والوظيفي الجديد كمستشار للكبير لم يسمح لها بالارتباط بحارسها الذي يصغرها عشرة أعوام،
وفي الأخير أخبرته باكية أنها تحبه من أعماق قلبها، لكنها مجبرة ب العودة إلى طليقها بضغط من عائلتها ومحيطها ووظيفتها الجديدة.
《النهاية》
.