المهندس أ. محمود شامي
قبل أكثر من أربعين عاما نزحت مع عائلتي من مدينتنا الساحلية على البحر الأحمر مدينة (عِدِّي) الواقعة في ضفة غربية للبحر الاحمر وعلى شاطئ اقليم (دنكاليا) بدولة ارتريا، رفقة أسر وعائلات هاربة مثلنا تلوذ وتنأى بروحها وجسدها من نيران الطائرات والبارجات الحربية لعدو كان يقصد إبادتنا وتهجيرنا ، ومن حرب ضروس بين عدو مدجج بأسلحة ثقيلة وحديثة وجبهة متسلحة بأسلحة خفيفة، وبإيمان كبير وإرادة قوية، ونزحنا مع الثوار الذين كان معظم أبناء مدينتنا منخرطين في صفوفهم، غادرنا معهم في ليلة صيفية ذات زمن بعيد تاركين مدينتنا وراءنا، وكل ما نملكه من غال ونفيس ، وذكريات للروح وللجسد، نزحنا بمساعدة الثوار إلى منطقة داخلية محاطة بالجبال تدعى (إيريبلي) وبها نهر دائم الجريان، استوطنا هناك قرب قاعدة جيش الثوار الواقعة في تلك المنطقة التي تبعد عن مدينتنا ب 25 كلم، كان الثوار يملكون في ذات المكان مزرعة نموذجية كبيرة تنتج الكثير من المحاصيل الزراعية المختلفة، يصدرون بعض تلك المحاصيل إلى دولة مجاورة في ضفة شرقية لبحرنا وعن طريق مرفأ بيد الثوار وهو مرفأ (برعصولي) الذي يبعد عن مدينتنا 30 كلم شرقا، وأقامت الأسر أيضا مزارع خاصة بها حول واد (إيريبلي)، ومشروع الثورة كان مزرعة لكل عائلة، وزع الثوار للعلائلات بذور بعض المحاصيل، فتحولت المنطقة على طول واد دائم الجريان إلى مزارع، واذكر منها مزرعة خالي التي كانت كبيرة يعمل بها مع خالي من ثلاث إلى اربعة أشخاص، كنا مجتمعا يمتهن الصيد البحري والرعي حصريا، وتحولنا في تلك الفترة إلى مجتمع زراعي بإمتياز، وأنا أذكر تلك الأيام بالكاد، وأذكر من تلك المحاصيل الذرة البيضاء والصفراء والطماطم والفلفل الأخضر والبطيخ والباباي، وكنا ندرس ونتعلم في خيمتين أعدها الثوار للتعليم ، كانتا للصغار في الصباح، وللكبار مع كتاب (نقرأ ونناضل) بعد العصر، وبعد سنتين وبضعة أشهر اشتدت الحروب وتقهقر الثوار نتيجة خلافاتهم الداخلية، وخيانة من البعض لهم ، نزحنا ونزحت العائلات مجددا مع الجبهة من تلك المنطقة إلى منطقة ذلك المرفأ البحري الذي تدخل منه المؤن والعتاد للثوار، وتصدر منه الثورة المحاصيل الزراعية، والواقع على عدة كيلومترات شمال مدينتنا، كانت (برعصولي) ومرفأه مدينة تعج بالسكان والحياة وتحول إلى مدينة الاشباح وقتها، فصار المرفأ بائسا خاويا على عروشه ومكان محطم بلا روح وبيوت تحولت إلى رماد نتيجة غارات جوية وبحرية تعرضت لها المدينة ،، ومن كتبت لهم النجاة لاذوا وفروا بأرواحهم إلى الضفة الأخرى وإلى شاطئ مقابل لشاطئنا قبل عامين من وصولنا نحن اليه ، ورحلوا إلى مكان نحن بصدد الهجرة اليه، و التحقنا بالفعل بسكان ذلك المرفأ في الغربة ، تم تهريبنا وإخراجنا ليلا وعلى شكل أفواج، واستمر ترحيلنا وسحبنا من ذلك المرفأ إلي شاطئ الخوخة اليمنية أسبوعا واحدا، وبواسطة زوارق وسفن سلاح البحرية التابعة للثوار، كان ذلك قبل أربعين عاما، كنت حينها أبلغ السادسة من العمر، واليوم نحن رجل أربعيني أكل منه الدهر وشرب. وبعدها حدثت أشياء كثيرة، وأشياء مؤلمة وصادمة ومحبطة، فعاد الوطن بعد 11 عاما من لجوئنا وشتاتنا، وللأسف عاد مبتورا وموبوءا، او بالأحرى لم يعد، نلنا الاستقلال ولم ننل حريتنا، وعليه لم نستطع العودة إلى ديارنا كل هذه المدة،
في الأخير وبعدما اغرقنا الحنين والأشواق الي الديار ودب اليأس الى نفوس الكثيرين من حكاية العودة، هبت رياح التغيير على الوطن واعادتنا اليه، كتبت اليوم ما كان مدونا بذاكرتي من تلك الأماكن نفسها، والاماكن التي مررت منها ذات صبا وانا في السادسة من العمر.
تمت