الذاكرة 3 قصة قصيرة
المهندس أ. محمود شامي
لجأنا إلى بلد شقيق وجار ضمن الدفعة الأولى التي ضمت خمسمائة لاجئ ليصل تعدادنا إلى أربعة آلاف لاجئ بعد عام، شكلنا نحن الأطفال أغلبية اللاجئين بنسبة تعدت 60% تقريبا، تلتنا النساء، ثم كبار السن والجرحى من مختلف الأعمار ، وقلة من الشباب والرجال.
أقامت هيئة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة رفقة الصليب الأحمر وتحت إشراف أمني للدولة الحاضنة مخيما يحوي خيم إيواء وعدد من الحاويات ومعدات أخرى تخص مراكز اللجوء كالأغطية والألبسة والأغذية والأدوية وغيرها ، جمعت الخيمة الواحدة أكثر من عائلة بحيث أصبحت للنساء والأطفال خيم جماعية، وللذكور خيم تضم الواحدة منها العشرات ، ومنحت الخيم للعائلات في حالات خاصة، انعدمت في المخيم كل وسائل العيش، فالمركز الصحي مثلا خيميتين فقط، تعج إحداها بالمرضى، فلا أدوية ذات معنى في المركز، أبي يشتكي ويقول انه بقي كرتونين من علب الجيليكوز ، وعلب أخرى فيها حبوب تتراسيكلين او مضادات حيوية، ومطهرات الجروح والكمادات وأشياء أخرى بسيطة. وعمي والبعض شيدوا بمجهوداتهم الذاتية مسجدا متواضعا من سعف النخيل وبعض الألواح يقيمون فيه الصلوات الخمسة، وصار عمي امام مسجدنا،
سنتين ونحن على هذا الحال التعس.
بعد سنتين لبت هيئة اللاجئين وشركائها مشكورين ومأجورين مطالب لجنة مخيمنا، لم تلبي الهيئة طلب واحد، وهو طلب بناء مسجد،
رد الهيئة جاء ديبلوماسيا، أخبرونا أن ملف المسجد قيد الدراسة،
أضاف مندوب الهيئة قائلا :
لا نستطيع تأكيد متى سيتم الرد على طلب بناء مسجد،
ما يعني بأنه رفض ضمني.
لم يستوعب الكثيرين ومنهم عمي المسألة ، تذمروا، احتجوا، تعالت أصوات بعضهم، كيف و لماذا، المهم أصروا على موضوع المسجد،
هز عمي رأسه بامتعاض وأسى، أخرج علبة تنباك (تبغ مطحون) من جيبه، وضع حفنة منها على راحة يده اليسرى وعصرها بين أصبعي يده اليمني ، ثم وضعها في فمه و تحديدا في الشفة السفلي، و قال منفعلا وممتلئا ب الغضب وهو يحك راحتي يديه ببعضهما محاولا ازالة بقايا التبغ من يده :
نحن ب حاجة لمعوناتكم ومساعداتكم، لكننا لن نقبلها،، نفضل الجوع والموت ونصرة الله والمسجد، و الله اكبر
وردد معه البعض بصوت واحد وعال، الله أكبر ، الله أكبر،
إحتار المندوب ورفيقيه، تملكهم الخوف وصمتوا ، لم يجدوا كذلك طريقة للخروج من المأزق وإفهام هؤلاء.
في خضم الفوضى والخوف قام أبي وأخذ الميكرفون من المندوب، وطمأنه أولا، ثم أسكت الأصوات الثائرة قائلا :
اهدأوا رجاء ، اهدأوا يا أهلي، واسمعوا ما سأقوله لكم :
يا أهلي الكنيسة لا تبني مسجدا ؛؛
اطلبوا شيئا آخر من الكنيسة غير المسجد او اصمتوا،
التفت ابي إلى عمي ومن معه، وأضاف :
من فضلكم لا تزيدوا من آلام شعبنا ومن معاناة من وصلوا إلى قمة المعاناة.
التفت كذلك إلى مندوب هيئة اللاجئين وتحدث معه بالإنجليزية ، سيدي نعتذر لكم ، ونطمئنكم ، فأنتم في أمان وبين إخوتكم ..
صفق الجميع لأبي ، سوى قلة ..
تهللت أسارير المندوب وبلع ريقه واطمأن قليلا هو ورفيقه .
حاولت تلك القلة التي لم تصفق مقاطعة أبي في تلك الأثناء وفرض رؤيتهم ،
لكن أبي تحدث معهم مطولا، وبلغتنا وبلغة لا يمكن أن يفهمها المندوب ورفيقيه وأقنعهم ،، واتفقوا …
وجه أبي حديثه مجددا إلى مندوب الهيئة وقال :
نيابة عن مخيمنا شكرا على كل ما تقوم به الهيئة وشركاؤها تجاه مخيمنا من خير .. شكرا على البيوت اللائقة للسكن ، شكرا على المدرسة والكتب والكراريس والأقلام، وعلى المركز الصحي الجديد والأدوية والكادر الطبي الجديد، وعلى البئر الإرتوازي وعلى خزانات المياه ، على الأدوية ، وعلى المعونات الشهرية المقدمة لكل فرد وأسرة، شكرا لقبول طلب اللجوء ل 50 لاجئ من أهلنا إلى مكان رأوه أكثر أمنا،
أما المسجد (قالها أبي بابتسامة غامضة تنم عن دهاء):
فسنتدبر أمره.
أبي كان يعلم أن جمعية خيرية في طريقها إلينا، وتكفلت مسبقا ببناء مسجد كبير بالمخيم وخدمات أخرى.
تمت