لم يعد خافي على كل المهتمين بالسياسة بأن البحث عن الموارد الطبيعية والمواد الخام الأولية أصبح اليوم أولية إستراتيجية، وأن من يملك تلك الموارد الطبيعية والمواد الخام أو يسيطر عليها سيصبح القوة الاقتصادية الأولى في العالم.
كما لم يعد خافي بأن غالبية تلك الموارد الطبيعية والمواد الخام توجد بإفريقيا، ويتميز السودان عن بقية الدول الافريقية بموقعه الاستراتيجي على البحر الأحمر مما يمكنه أن يلعب عدة أدوار منها المساهمة فيما يسمى حرب الموانئ وبالتالي الحصول على رسوم مهمة من التجارة العالمية العابرة بالبحر الأحمر، ذلك الموقع يسهل تصدير او تهريب تلك الموارد الطبيعية والمواد الخام عبر البحر الأحمر، دون نسيان الدور المهم لذلك الموقع على البحر الأحمر في الصراعات الجيوسياسية ضد الكيان الصهيوني إسرائيل وكذلك ضد الاطماع الإيرانية.
يتميز السودان أيضا بموارد طبيعية من أراض شاسعة مسطحة صالحة للزراعة ومياه وأمطار وانهار ومياه جوفية ، وفوق ذلك ثروة حيوانية قل ان توجد في بلد أخر، مما يؤهل السودان بقليل من الاستثمار الجاد والمكننة الزراعية لأن يكون البديل لأوكرانيا والبرازيل في تغذية العالم من الحبوب واللحوم.
كما يملك السودان فوق ذلك وفرة في المواد الخام النادرة مثل اليورانيوم شديد النقاوة والذهب والنحاس وبقية المعادن الأخرى بجانب البترول، ولعله بقليل من البحث يمكن فهم أن الجزء الأكبر من تلك الخيرات الطبيعية يوجد بإقليم دارفور.
إقليم دارفور الذي تبلغ مساحته تقريبا مساحة دولة فرنسا ولا يوجد به سوى عدد قليل جداً من السكان لا يبلغ الخمس مليون مواطن بيتهم قرابة اثنين مليون قاموا بهجرة داخلية نحو بقية مدن السودان وخارج السودان.
مما يجعل ممن يضع يده على هذا الإقليم او حتى يصبح الوصي عليها ستكون له كلمة مسموعة في السياسة العالمية، وهنا يمكننا ان نضيف للمصطلحات العالمية بجانب مصطلح القوة الخشنة والقوة الناعمة ما يمكن ان نسميه القوة الطبيعية.
لذلك رمت الولايات المتحدة الأمريكية بكل ثقلها السياسي في السودان فقامت بتشييد أكبر سفارة لها بإفريقيا بالسودان، على أمل ان تجعل السفير الأمريكي هو الحاكم الفعلي الخفي للسودان، بل إنها كانت الأولى في اكتشاف البترول بواسطة شركة شيفرون في السودان منذ سنوات الثمانينات واحتفظت بذلك كاحتياطي مستقبلي لها، ثم عملت بصورة خفية وناعمة على فصل جنوب السودان ليقع في حضنها بكل خيراته بحثاً عن أب شرعي حامي له.
بالطبع لم تنس روسيا أن تزاحم الولايات المتحدة الامريكية في محاولة وضع يدها على السودان، فجاء تدخلها في إفريقيا في دول مالي وإفريقيا الوسطى والنيجر لسرقة اليورانيوم والذهب بواسطة القوة العسكرية غير المباشرة عبر شريكها فأغنر، وإن كان شغلها الشاغل هو إيجاد موطئ قدم لها على البحر الأحمر كقاعدة عسكرية تزاحم عبرها في التحكم في البحر الأحمر والتجارة العالمية وتهرب عبرها خيرات إفريقيا، ولذلك فقد قامت روسيا باستقبال الرئيس المخلوع عمر البشير ووعدته بالاستجابة لطلبه بحمايته ونظامه من الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك قام بوتين شخصيا باستقبال السيد محمد حمدان دقلو قائد قوات الدعم السريع ودعمته بالسلاح والتدريب والتخطيط ، على أمل أن تبسط سيطرتها الكاملة على وسط افريقيا أي على دول مالي وافريقيا الوسطى والسودان او في اضعف الاحتمالات إقليم دارفور، خاصة وهي تعلم بوجود تداخل وترابط وتصاهر بين القبائل العربية في تلك الدول ، ومن ثم تتوسع أكثر فأكثر مع وضع عينها على ليبيا للتحكم في البترول وإيجاد منفذ لها على البحر الأبيض المتوسط.
من ناحية أخرى تسللت الصين كعادتها في صمت وهدوء ووجدت لها سوق لمنتجاتها السيئة والرخيصة الثمن في كل دول إفريقيا، ولكن مقابلها كانت تأخذ الكثير من الموارد الطبيعية والمواد الخام الافريقية.
انتبهت دول الجوار الإقليمي بأنها يمكن ان تلعب دور الوسيط السمسار الذي ينال رضا الدول العظمى وينال جزء من قطعة الجاتوه السودانية، فكانت الأطماع المصرية في شمال السودان التي ابتدأتها بانتزاع مثلث حلايب ثم شلاتين ثم رمادة وما زالت تطمع في شمال السودان ولو عبر سياسة التكامل الاقتصادي وزراعة ملايين الافدنة بعد تهجير ملايين المزارعين المصريين لشمال السودان، وكانت الاطماع الاثيوبية في شرق السودان وخاصة منطقة الفشقة وما جاورها وهي أخصب مناطق السودان الزراعية لزراعة الذرة.
وفي السابق طمع العقيد القذافي في سحب المياه الجوفية التي توجد في دارفور عبر مشروعه النهر الصناعي العظيم، وهناك أطماع أخرى في دارفور خاصة بعد ضعف نهر الكنغو وانحسار بحيرة تشاد.
إذن وجود دولة ضعيفة بسبب الأنظمة السياسية غير المستقرة في السودان أو أنظمة عميلة وتابعة هو هدف أساسي لكل الطامعين في الثروات السودانية، وباعتبار ان الأنظمة العسكرية هي استبدادية وتحتاج لحماية خارجية لتثبيتها لذلك تصبح هي الأسهل في الترويض عبر سياسة العصى والجزرة وهو ما جعل الولايات المتحدة الأمريكية تصمت عن نظام الإنقاذ العسكري الديكتاتوري خلال قرابة الثلاثين عاما، ولكنها لم تقبل بمواصلة الصمت عندما اتجه نظام الإنقاذ بصورة جادة للبحث عن حامي أخر هو روسيا!
إذن استطاعت الدول ذات الاطماع الخارجية ان تطبق خطة سياسة فرق تسد بهدوء في السودان حتى انفصل جنوب السودان، ثم فتنت وزكت و”شعللت” نيران الخلافات القبلية البسيطة في دارفور واوصلتها لحروب أهلية واستخدمتها كورقة ضغط ضد نظام الإنقاذ لإضعافه وجره لمزيد من التنازلات وهي تضع في الحسبان فصلها مستقبليا!
بعد انفصال جنوب السودان، تأتي هذه الحرب بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع كالحلقة الثانية الطبيعية في سلسلة التآمرات المخطط لها لتفكيك السودان الى عدة دويلات من قبل النظام العالمي الذي يجد في ذلك التفكيك الموازنة الوحيدة بين مصالحه ومصالح كل الأخرين الطامعين في السودان، بمعنى أخر ان التفكيك هو محاولة اقتسام قطعة “الجاتوه” السودانية وابتلاع السودان بكل خيراته التي لا يدخل ضمنها الشعب السوداني! فهل يصحو أهل السودان!